أبقوا هذا الابتسامة في الذاكرة
ينهي كونديرا روايته القصيرة قائلا: أنظروا! هذا صحيح. إدوارد يبتسم! أنه يبتسم وابتسامة سعيدة. لقد خف الثقل – بمفهومه اللاحق في كتاباته – عن كاهله وكاهل ذاكرة الوطن وجيل تائه بين أرجاء وطنه " التشيك "، وتحديدًا “بوهيميا" في تسع سنوات
و لما النهاية
بالتحديد، لما لم نذكر البداية و التي تحوذ كل اهتمام و رغبة، و تسطر اللاوعي
الخاص بنا تمهيدا لما هو قادم؟
لعل ابتسامة الشخصية الرئيسية هو وصولها لأنه محي التكلف و الرضى عن ذاته، حينما
نقرأ بواكير أعمال ميلان كونديرا الأساسية، و المبهمة، و لا نقدر أن نخترق – لأننا
مقهورين مثله في هذا العالم – منطق
كونديرا الأولى و المسطور في جنبات تلك النوفيلا بنفس فرضياته، لأنه يقول لنا من
البداية، هذا الجدية في الشخصية، و الجدية التي حملها و تحملها في ذات الوقت لا
فائدة منها، بيد ان العبث كل العبث و التعاسة كل التعاسة كما قال – بنبرة الراوي :
آه ، آنساتي و سادتي، ما أتعس حياة المرء حين لا يستطيع ان يأخذ شيئا على محمل
الجد ، و لا حتى أحدًا !
هذا ما يبعث على الابتسامة التي يجب ان نتذكرها طويلا كما قال في النهاية قبل أن
يودعنا، و هنا بدأت أن أقراها للمرة الثانية لكي لا أنسي الابتسامة التي رسمها
للبطل، بعدما كنت غير مقتنع تماما بما فعله كونديرا، لكن الأمر لم يكن بالاقتناع
أبدا من عدمه، بل الذاكرة و الابتسامة.
ان علاقة
كونديرا بالوطن علاقة مميزة، أنه يوجه قارئه بذكاء نحو أدراك تلك العلاقة في مناحي
مختلفة من "التأمل" و العكس، العلاقة القوية بمفهوم الحياة الأوروبية فترة
الحرب الباردة و بعد الحرب العالمية الثانية، يكتشف بكل هدوء و بلا تعجل عن النفس
و اللاشعور، و يضمنها في تساؤلات ذكية و تعليقات لطيفة
و تلك الفترة بالتحديد، ما جعلت " إدوارد " يقع في نطاق اللامبالاة،
فهو لا يهتم فعلا إلا لما يريد، من حفظ مكانة اجتماعية، و البحث عن نزواته الخاصة،
ناسيًا تلك السلطة الأبوية المتمثلة في أخيه الكبير، و منجذبًا يمينا و يسارًا -
بشكل لا يفهمه هو حتى – بين الدين و بين العالم المادي بالشكل الشيوعي المفروض
عليه، ويصير معلمًا كنوع من الالتزام و الجبر و التي هي مهنة أقل شأنا و تافهة بالنسبة
له، من ناحية أخرى هي لا تناسبه بالمرة !
فيقول كونديرا : لكن إذا كان الشيء الإلزامي
هو شيء غير جدي و يحمل على الضحك فالجدية بلا شك الشيء الاختياري !!
تلك مأساة الشاب – و تستمر حين يقع في قيد اجتماعي مستمر و يظل مقهورًا !
------------------
حين
تختار أن تتمسك بامرأة، فأنك بالتأكيد أخترت أعجابك بالشكل، و الشكل بالتأكيد، و
لعلك تحاول بكل قوة ان تحتفظ بها لذاتك
لكن الشهوة لها أمر أخر، فمن ناحية تمثل طبيعة الدين في شخصية "اليس" و
طبيعة الشيوعية في "مديرة المدرسة"، و الشهوة أمر لا مفر منه بين
المعروض و المفروض، ففي البداية، ينحدر تدريجيا إدوارد بدون أي كود أخلاقي نحو
"أليس" و التي تفرض في البداية سؤالا محوريا وهو : إلا تؤمن بالرب ؟
حينها يمتثل للذهاب للكنيسة، و بل يتأثر بكل ما فيها من ممارسات، لكن الشهوة تحضر
لا مفر، و هنا يبرع كونديرا في تأمله الذاتي نحو رغبة البطل في الحصول على جسد
"أليس" ، بكل المحاولات التي تفشل، يرسم إدوارد الصليب امام وجه أليس
بشكل ساخر في الطريق أمام تمثال للسيد المسيح، لأن ذلك الإله الذى تبحث عنه أليس
ليس ما كان أستقر في ذاته، بل الذ يستقر فقط هي الشهوة و لا غيرها.
و في المقابل فأن مديرة المدرسة التي تسخر
من شبابه المهدر على الإيمان، و تفضيله فتاة شابة على امرأة تقول له : لست أفهم
كيف يمكن لشاب أن يذهب للكنيسة؟
ذلك الإله الخفي الغير جوهري و الغير معني بحال بطل الرواية، هو المعنى المترسخ في
كل أنثى و فتاة ذات أحلام لا تجدها على أرض الواقع، بالطبع إدوارد هو المعني في
الرواية، ذلك المعادل الموضوعي للذكورية الباحثة عن المعني في أرض النساء
المتمسكات بالمظهر الخارجي للأفكار و المشاعر، تلك الدوافع و الحركة الدؤوبة بين
الكلمات، و نسيان المجتمع لما هو جوهري و ما هو غير
جوهري، تقبله لكل شيء ولا شيء، و نسيان الرجل قيمته الذكورية و الشيوعية تفرض
نفسها في بلده، في حين المرأة هي التي تتكيف بكل طريقة لتواجه الواقع و تتعايش
معه، كل ذلك في رواية صغيرة تظهر عبقرية كونديرا، و أعتقد أن الحاجة للحديث عن سرد
كونديرا هو أمر مفروغ منه.
يقول كونديرا على لسان بطل الرواية: إيها الرفاق، إني أخبركم بالأمور كما هي. أعرف حق المعرفة أن الإيمان بالله يبعدنا عن الواقع، ماذا سيحدث للاشتراكية لو أمن كل الناس ان الكون خاضع لسلطة الله؟ لن يفعل أحد شيئًا، وسيفوض كل أنسان أمره لله.
هنا يخضع البطل
لمحاكمة عاجلة لما جر على نفسه من رؤية أحد العاملات في المدرسة له و هو يرسم
الصليب لصديقته، و هنا يختار طريق الصدق و يعترف بإيمانه و في نفس الوقت يقول ان
عقله يختار الاشتراكية كمفتاح لفهم العالم المادي و التقدم فيه ، و ينجح في
النهاية أن يثبت وجهة نظره المتناقضة، لتكون المديرة التي تجد فيه فرصة سانحة
لتجذبه إليها ان تتولى هي أمر ابعاده عن الرب، ليكون مدرسًا يؤمن فقط بعقله و
الاشتراكية، و تستحوذ على شهوته و جسده.
هنا يسقط إدوارد سقوطًا حرا بلا قيود، يعجب بذاته، تُعجب به صديقته أليس التي ترى
ذلك شجاعة عندما تعرف ما حدث، و يحصل على ما يريد من العلاقة الجنسية من أليس التي
وافقت و مارست معه أول خيانة للإله الذى وافق على الإيمان به في اول حياته، ليحل
هو محل الإله مرة أمام صديقته و مرة أخرى أمام مديرته ، فلم يرفض العلاقة بل تأكد
أن هذا هو الموجود، و ذلك الموجود في ظل مجتمع قمعي فاسد لن ينتهي، إن كان يرفض
القيم أو يقبلها بعوار ليمارس فسادا هو الأخر ، كل هذا بلا معني أو جوهر
لا قيمة للأفكار، و لا شيء، لأن و كما يقول كونديرا عن بطله: أنه أشرف من أن يرضى
بأن يجد الجوهري في غير الجوهري، إلا أنه أضعف من ان لا يتوق إلى الجوهر بشكل سوي
!
تلك المعاناة الكاملة و الكامنة لاستعمار صغير يغزو الأنسان و كيانه أمام استعمار
كبير لا يتوانى أن يفرض سلطته عليه.
و الأهم عندما
نصمت، و لا نتحدث، أنا أو أنت أو الغير، و يقتلنا من الداخل كل هذا الفراغ
الخارجي، يجب أن نعرف بأن الجوهرية و المعني لن نجدهم في عالم فاسد قمعي، هناك
فرصة لتكن أنسانا مقهورًا لا أكثر مهما تجملت أو بحثت في هذا المجتمع
أخيرًا
يقول الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا في كتابه (اللاطمأنينة):] لو
وعينا الحياة لما كان بإمكاننا احتمالها[
تعليقات
إرسال تعليق