الخفة
و الثقل و انت تقرأ
تلك الرواية بالتحديد – لأنها عمل متفرد - تمهلت أكثر من عام لأقرر قراءتها ،
دائما كنت أقول في نفسي " لست مؤهلا لقرأتها " ، و لا أعلم حتى بعد الانتهاء
أنني كنت على صواب أم على خطأ
بجوار رطانة المثقفين في أخر أربع سنوات، الكل يقتبس شيء منها وتتحدث بقوة عن فكرة من منطق اقتباس في الرواية
الذي يؤخرك عن قراءة عمل مثل هذا، أن الكل يضع الرواية كما يقول كونديرا نوعا من " الكيتش " وبالتحديد الكيتش الأدبي، بأن الرواية هي الأفضل وهي الأجمل، ولا أحد يجرؤ بالكلام أو الحديث عنها، تعلق فقط كعلامة امتياز لمن يقرأها، في حين مجاهرة البعض بأن الرواية لا تستحق فعلا كل هذا الصخب، بل لا تستحق الجهد المبذول لقراءة كل هذا الورق!
كأن القراءة هي مجرد بديهيات المثقف العربي، وبدونها هو جاهل، وخصوصا قراءة الروايات التي يتفق عليها بأنها الأفضل، وليس بمهم رأيه المهم أن يُحصل ما يقدر من عناوين للقراءة تجمع بين الغرابة والشهرة.
إذن
الرواية هي وصول الأنسان لعالم ما بعد الحداثة، وأجزم بأن مجرد الادعاء بقراءة الرواية في وقت أقل هو محض هراء ولا ليس أقل من هراء حتى لو كان الشخص محترف قراءة فقط، ويملك رصيدا واسعاً من قراءات النقد والفلسفة والتاريخ وغيرها من الكتب، فنحن لسنا أمام سرداً عادياً، وقيمة ما تقرأ في "هضمه" وليس “اجتراره"، فالتجربة الإنسانية المسطورة أمامنا لا تؤخذ إلا بطواعية ذهن صاف وعقلية متذوق، لا عقلية متحفز للانتهاء من سباق ليس به أحد سواك.
وميلان كونديرا تعمد أن يكتب بشكل سردي يختلف عنما كتب سابقا، ففي روايته " أدوار والرب “هو يتحدث بكل ثقة ويسرد لك كما يريد بالطريقة المتعارف عليها (البداية – العقدة والحبكة – النهاية)، وفي “حفلة التفاهة" يفرض الحوار مباشرة عليك بدون مقدمات.
لكن هنا، الأمر يختلف
منظور مختلف للحياة
ميلان كونديرا هنا يفرض عالماً مكتملاً، وككل كاتب أما أن يسعى للخيال ويرتمي بين أحضانه، أو يشق الطريق الأصعب، ان يُجلسك أمام الحياة وجها لوجه، بكل ما فيها من " ما بعد الحداثة “، لكنه ولسبب وجيه، لم يتحمل ميلان كونديرا كل الحياة، فأخذ في تقسيمها وتنويعها وتفكيك كل جزئية فيها، بين أربع شخصيات (طبيب، فتاة ريفية بخبرة بسيطة في الحياة، فنانة ورسامة، ودكتور جامعي)
لك أن تتخيل، ما حجم الحياة التي نعيشها الأن، وما هي الحياة التي تريد، هنا في الرواية، أنت لا تخرج عن هذين السؤالين، بل يفرضان عليك فرضًا
بين الثقل والخفة التي لا تطاق، بين الجسد والروح، بين الحياة والحياة نفسها
ميلان يغوص غوصا
في اعماق النفس البشرية، ويؤثر فينا بدون أن يُخل بعرضه الفلسفي الواضح
نلاحظ ذلك في كل كلمة في الرواية
فعلى سبيل المثال : تلك اللحظة التي وافق
فيها "توماس" على طلب "تيريزا" بعد كل المغامرات الجنسية التي
كان يقوم بها بالذهاب للريف
تلك الليلة التي وافق فيها على طلب تيريزا .. يتمعن كونديرا في سرد الاحلام و
الهواجس بشكل لا يصدق حتى لحظة التنبه من الأحلام، يقول:" كان جالسًا على
السرير ينظر إلى المرأة النائمة إلى جواره و التي كانت تمسك بيده أثناء نومها: كان
يشعر نحوها بحب لا يفسر."
و كأن كونديرا هنا يقول بكل وضوح: لابد ان
تعترف بالحب الذى يأتي لك بين يديك، فهو الحب الفعلي و الحقيقي.
أو ما قاله عن الخيانة كمثال صريح ، فمثلا شخصية " سابينا" التي لا تضع
أطار الزواج لها شكل اجتماعي واضح، بل أن المرأة التي تنشأ في كنف أسرة متماسكة،
تكره وجود كل هذا الثقل، و تبحث عن كسر المألوف- نرى ذلك تفسيرًا لذهنية المرأة
لدى كونديرا باختياراتها الغير مفهومة- تترك فرانز خليلها و صديقها لأنه ترك زوجته
!
لا أحد يقول إن النفس البشرية هي سهلة وسريعة الفهم لنا، بل ان الرواية تهدم بكل فلسفتها وتنظيرها الواضح محاولات "تأطير" النفس ووضع قواعد لها
خصوصا وانت في نظام حكم قمعي يُفرض عليك بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة من روسيا، فالرواية هي قماشة كبيرة للمجتمع الأوروبي شرقه وغربه، بين المتناقضات الحية في التفكير وأسلوب الحياة، بين الانحلال وتفسخ الحياة جراء الحروب والعذابات المتكررة في التمسك أو خيانة أوطان ليست بأوطان.
في أحد مسلمات الفكر الأوروبي، المستوي الديكارتي، تقسيم ديكارت الرباعي لما هو " موجب " وهو “سالب " و "مرتفع" و "منخفض "، أعتقد أن كونديرا أستلهم تلك المسلمة في فرض رؤيته وطريقته السردية
حتى انه عندما حاول الخروج بذاته متحدثا عن روايته رجع في الحال ولم يكمل - تلاحظونها في أخر قسمين في الرواية - لأنه ملتزم تماما بنسج العالم الحقيقي على الورق، يعطيك أفاق غير محدودة وتحليلات كاملة عن العلاقات الانسانية، الجنس، الحب، الخوف، الخيانة، الترقب، الاحلام، الأفكار بكل ارتفاعهم وانخفاضهم في شخصياته الأربع، أنها تعرية كاملة من كونديرا لكل ما هو ثابت ومستقر في الأذهان، فالداعر قد يحب، والساذج قد يتحكم، والمنطلق قد يكتفى، والذي يحق له الحب قد لا يجده بسهولة
كل هذه الثنائيات والرباعيات - لا يوجد منطق التثليث أطلاقا فيما كتب - هي عبقرية مطلقة
العادة في النقد أمام رواية تنظيرية
الحديث عن
تفاصيل الرواية - وتلك الرواية بالتحديد - عن شخصياتها وبناء الشخصية وتكوينها
ونسج العالم المحيط بها: غباء تام، إذن لماذا تسمي رواية ان تحدثنا عن تفاصيلها
الكثيرة، في منطق الحداثة
السائلة أو ما بعد الحداثة، ذلك العالم المخفي تماما عن أعين العرب فالأمر لا
يستحق أن تحكم عليه بقواعد صماء، و الذى يقرأ الرواية يقرأها حاليا لأجل
الاقتباسات التي بها فقط!
إذن هل تستحق
الرواية أن نضعها كل يوم باقتباس؟
هل تستحق منا نحن من نسمي أنفسنا قراء ومثقفون أن نسلك سلوكها ونفككها هي – كرواية - كل فكرة على حدا، وهو كاتبها قد جمع فيها ما أستطاع لأن الحياة هي أمر لا تحتمل خفته، ولا تتطلب تجزئيها وجبر مكنوناتها أمامنا، بالرغم من التفاهة والعدمية؟
ولا يهم أن العالم المنسوج في الرواية يحمل كل التناقضات والمبادئ؟
هل سأقرأها ثانية بعد عام أو عامين؟ تلك تساؤلات متروكة لمن يقرأ الرواية بتمهل
الرواية هي للكل وليست للفرد، لكن وبشكل عابر، انت في المستوي الديكارتي، على أحد محاور الشخصيات، وتعقيداتها، وحواراتها اللامتناهية، أقرأها لتعرف مكانك فيها، ومكانك أمام ذوات مبهمة، وأمام ذاتك المبهمة هي الأخرى
لعلنا كنا يوماً
ما أو مازلنا في عالمنا الحالي: كائن لا تحتمل خفته
تعليقات
إرسال تعليق